فصل: مقدار الفداء للأسير

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: سيرة ابن هشام المسمى بـ «السيرة النبوية» **


 خروج زينب إلى المدينة وما أصابها عند خروجها

 تأهبها و إرسال الرسول رجلين ليصحباها

قال ‏‏:‏‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخذ عليه ، أو وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ، أن يخلي سبيل زينب إليه ، أو كان فيما شرط عليه في إطلاقه ، ولم يظهر ذلك منه ولا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعلم ما هو ، إلا أنه لما خرج أبو العاص إلى مكة وخُلِّي سبيله ، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة ورجلا من الأنصار مكانه ، فقال ‏‏:‏‏ كونا ببطن يأجج حتى تمر بكما زينب ، فتصحباها حتى تأتياني بها ‏‏.‏‏

فخرجا مكانهما ، وذلك بعد بدر بشهر أو شَيْعِه ، فلما قدم أبو العاص مكة أمرها باللحوق بأبيها ، فخرجت تجهز ‏‏.‏‏

 هند تحاول تعرف أمر زينب

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ فحدثني عبدالله بن أبي بكر ، قال ‏‏:‏‏ حُدثت عن زينب أنها قالت ‏‏:‏‏ بينا أنا أتجهز بمكة للحوق بأبي لقيتني هند بنت عتبة ، فقالت ‏‏:‏‏ يا بنت محمد ، ألم يبلغني أنك تريدين اللحوق بأبيك ‏‏؟‏‏ قالت ‏‏:‏‏ فقلت ‏‏:‏‏ ما أردت ذلك ؛ فقالت ‏‏:‏‏ أي ابنة عمي ، لا تفعلي ، إن كانت لك حاجة بمتاع مما يرفق بك في سفرك ، أو بمال تتبلَّغين به إلى أبيك ، فإن عندي حاجتك ، فلا تضطني مني ، فإنه لا يدخل بين النساء ما بين الرجال ‏‏.‏‏

قالت ‏‏:‏‏ والله ما أراها قالت ذلك إلا لتفعل ، قالت ‏‏:‏‏ ولكني خفتها ، فأنكرت أن أكون أريد ذلك ، وتجهزت ‏‏.‏‏

 كنانة يرجع بزينب حتى تهدأ الأصوات ضدها

فلما فرغت بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهازها قدَّم لها حموها كنانة بن الربيع أخو زوجها بعيرا ، فركبته ، وأخذ قوسه وكنانته ، ثم خرج بها نهارا يقود بها ، وهي في هودج لها ‏‏.‏‏

وتحدث بذلك رجال من قريش ، فخرجوا في طلبها حتى أدركوها بذى طُوى ، فكان أول من سبق إليها هبَّار بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبدالعزى ، والفهري ؛ فروّعها هبار بالرمح وهي في هودجها ، وكانت المرأة حاملا - فيما يزعمون - فلما ريعت طرحت ذا بطنها ، وبرك حموها كنانة ، ونثر كنانته ، ثم قال ‏‏:‏‏ والله لا يدنو مني رجل إلا وضعت فيه سهما ، فتكركر الناس عنه ‏‏.‏‏

وأتى أبو سفيان في جلة من قريش فقال ‏‏:‏‏ أيها الرجل ، كف عنا نبلك حتى نكلمك ، فكف ؛ فأقبل أبو سفيان حتى وقف عليه ، فقال ‏‏:‏‏ إنك لم تصب ، خرجت بالمرأة على رؤوس الناس علانية ، وقد عرفت مصيبتنا ونكبتنا ، وما دخل علينا من محمد ، فيظن الناس إذا خرجت بابنته إليه علانية على رؤوس الناس من بين أظهرنا ، أن ذلك عن ذل أصابنا عن مصيبتنا التي كانت ، وأن ذلك منا ضعف ووهن ، ولعمري ما لنا بحبسها عن أبيها من حاجة ، وما لنا في ذلك من ثُوْرة ، ولكن ارجع بالمرأة ، حتى إذا هدأت الأصوات ، وتحدث الناس أن قد رددناها ، فسُلَّها سرا ، وألحقها بأبيها ؛ قال ‏‏:‏‏ ففعل ‏‏.‏‏

فأقامت ليالي ، حتى إذا هدأت الأصوات خرج بها ليلا حتى أسلمها إلى زيد بن حارثة وصاحبه ، فقدما بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏.‏‏

 شعر لأبي خيثمة في شأن زينب

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ فقال عبدالله بن رواحة ، أو أبو خيثمة ، أخو بني سالم بن عوف ، في الذي كان من أمر زينب - قال ابن هشام ‏‏:‏‏ هي لأبي خيثمة - ‏‏:‏‏

أتاني الذي لا يُقدر الناس قدره * لزينب فيهم من عقوق ومأثم

وإخراجها لم يخُز فيها محمد * على مأقط وبيننا عطر منشم

وأمسى أبوسفيان من حلف ضمضم *ومن حربنا في رغم أنف ومندم

قرنَّا ابنه عمرا ومولى يمينه * بذي حَلَق جلد الصلاصل محُكم ‏

فأقسمت لا تنفك منا كتائب * سراة خميس في لهُام مُسوَّمِ

نزوع قريش الكفر حتى نعلَّها * بخاطمة فوق الأنوف بميسم

ننزّلهم أكناف نجد ونخلة * وإن يُتهموا بالخيل والرجل نتهم

يد الدهر حتى لا يعوَّج سِرْبُنا * و نلحقهم آثار عاد وجرهم

ويندم قوم لم يطيعوا محمدا * على أمرهم وأي حين تندُّم

فأبلغ أبا سفيان إما لقيته * لئن أنت لم تخلص سجودا وتسلم

فأبشر بخزي في الحياة معجَّل * وسربال قار خالدا في جهنم

قال ابن هشام ‏‏:‏‏ ويروى ‏‏:‏‏ وسربال نار ‏‏.‏‏

الخلاف بين ابن إسحاق و ابن هشام في مولى يمين أبي سفيان

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ ومولى يمين أبي سفيان ، الذي يعني ‏‏:‏‏ عامر بن الحضرمي ‏‏:‏‏ كان في الأسارى ، وكان حِلْف الحضرمي إلى حرب بن أمية ‏‏.‏‏

قال ابن هشام ‏‏:‏‏ مولى يمين أبي سفيان ، الذي يعني ‏‏:‏‏ عقبة بن عبدالحارث بن الحضرمي ، فأما عامر بن الحضرمي فقتل يوم بدر ‏‏.‏‏

 شعر هند وكنانة في هجرة زينب

ولما انصرف الذين خرجوا إلى زينب لقيتهم هند بنت عتبة ، فقالت لهم ‏‏:‏‏

أفي السلم أعيار جفاء وغلظة * وفي الحرب أشباه النساء العواركِ

وقال كنانة بن الربيع في أمر زينب ، حين دفعها إلى الرجلين ‏‏:‏‏

عجبت لهبار وأوباش قومه * يريدون إخفاري ببنت محمد

ولست أبالي ما حييت عديدهم * وما استجمعت قبضا يدي بالمهند

 الرسول يستبيح دم هبار الذي روع ابنته زينب

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ حدثني يزيد بن أبي حبيب ، عن بكير بن عبدالله بن الأشج ، عن سليمان بن يسار ، عن أبي إسحاق الدوسي ، عن أبي هريرة ، قال ‏‏:‏‏ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية أنا فيها ، فقال لنا ‏‏:‏‏ إن ظفرتم بهبار بن الأسود ، أو الرجل الآخر الذي سبق معه إلى زينب - قال ابن هشام ‏‏:‏‏ وقد سمى ابن إسحاق الرجل في حديثه ، وقال ‏‏:‏‏ هو نافع بن عبد قيس - فحرقوهما بالنار ‏‏.‏‏

قال ‏‏:‏‏ فلما كان الغد بعث إلينا ، فقال ‏‏:‏‏ إني كنت أمرتكم بتحريق هذين الرجلين إن أخذتموهما ، ثم رأيت أنه لا ينبغي لأحد أن يعذب بالنار إلا الله ، فإن ظفرتم بهما فاقتلوهما ‏‏.‏‏

*2* إسلام أبي العاص بن الربيع

المسلمون يستولون على مال لأبي العاص ، وقدومه لاسترداده ، و إجارة زينب له

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وأقام أبو العاص بمكة ، وأقامت زينب عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، حين فرق بينهما الإسلام ، حتى إذا كان قبيل الفتح ، خرج أبو العاص تاجرا إلى الشام ، وكان رجلا مأمونا ، بمال له وأموال لرجال من قريش ، أبضعوها معه ، فلما فرغ من تجارته وأقبل قافلا ، لقيته سرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأصابوا ما معه ، وأعجزهم هاربا ، فلما قدمت السرية بما أصابوا من ماله ، أقبل أبوالعاص تحت‏ الليل حتى دخل على زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاستجار بها ، فأجارته ، وجاء في طلب ماله ، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصبح - كما حدثني يزيد بن رومان - فكبر وكبر الناس معه ، صرخت زينب من صُفَّة النساء ‏‏:‏‏ أيها الناس ، إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع

قال ‏‏:‏‏ فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة أقبل على الناس ، فقال ‏‏:‏‏ أيها الناس ، هل سمعتم ما سمعت ‏‏؟‏‏ قالوا ‏‏:‏‏ نعم ؛ قال ‏‏:‏‏ أما والذي نفس محمد بيده ما علمت بشيء من ذلك حتى سمعت ما سمعتم ، إنه يجير على المسلمين أدناهم

ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدخل على ابنته ، فقال ‏‏:‏‏ أي بُنيَّة ، أكرمي مثواه ، ولا يخلصن إليك ، فإنك لا تحلين له

 المسلمون يردون على أبي العاص ماله ، وإسلامه بعد ذلك

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وحدثني عبدالله بن أبي بكر ‏‏:‏‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى السرية الذين أصابوا مال أبي العاص ، فقال لهم ‏‏:‏‏ إن هذا الرجل منا حيث قد علمتم ، و قد أصبتم له مالا ، فإن تحسنوا وتردوا عليه الذي له ، فإنا نحب ذلك ، وإن أبيتم فهو فيء الله الذي أفاء عليكم ، فأنتم أحق به ؛ فقالوا ‏‏:‏‏ يا رسول الله ، بل نرده عليه ، فردوه عليه ، حتى إن الرجل ليأتي بالدلو ، ويأتي الرجل بالشَّنَّة وبالإداوة ، حتى إن أحدهم ليأتي بالشِّظاظ ، حتى ردوا عليه ماله بأسره ، لا يفقد منه شيئا

ثم احتمله إلى مكة ، فأدى إلى كل ذي مال من قريش ماله ، ومن كان أبضع معه ، ثم قال ‏‏:‏‏ يا معشر قريش ، هل بقي لأحد منكم عندي مال لم يأخذه ؛ قالوا ‏‏:‏‏ لا ، فجزاك الله خيرا ، فقد وجدناك وفيا كريما ، قال ‏‏:‏‏ فأنا أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، والله ما منعني من الإسلام عنده إلا تخوف أن تظنوا أني إنما أردت أن آكل أموالكم ، فلما أداها الله إليكم وفرغت منها أسلمت ، ثم خرج حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏.‏‏

 الرسول يرد زينب إلى أبي العاص

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وحدثني داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال ‏‏:‏‏ رد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب على النكاح الأول لم يحُدث شيئا بعد ست سنين ‏‏.‏‏

 مثل من أمانة أبي العاص زوج زينب ابنة الرسول صلى الله عليه و سلم

قال ابن هشام ‏‏:‏‏ وحدثني أبو عبيدة ‏‏:‏‏ أن أبا العاص بن الربيع لما قدم من الشام ومعه أموال المشركين ، قيل له ‏‏:‏‏ هل لك أن تسلم وتأخذ هذه الأموال ، فإنها أموال المشركين ‏‏؟‏‏ فقال أبو العاص ‏‏:‏‏ بئس ما أبدأ به إسلامي أن أخون أمانتي ‏‏.‏‏

قال ابن هشام ‏‏:‏‏ وحدثني عبدالوارث بن سعيد التنوري ، عن داود ‏بن أبي هند ، عن عامر الشعبي ، بنحو من حديث أبي عبيدة ، عن أبي العاص ‏‏.‏‏

 الذين أطلقوا من غير فداء

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ فكان ممن سُمِّي لنا من الأسارى ممن مُنَّ عليه بغير فداء ، من بني عبد شمس بن عبد مناف ‏‏:‏‏ أبو العاص بن الربيع بن عبدالعزى بن عبد شمس ، منَّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن بعثت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بفدائه ‏‏.‏‏

ومن بني مخزوم بن يقظة ‏‏:‏‏ المطلب بن حنطب بن الحارث بن عبيدة بن عمر بن مخزوم ، كان لبعض بني الحارث بن الخزرج ، فَتُرك في أيديهم حتى خلوا سبيله ‏‏.‏‏ فلحق بقومه ‏‏.‏‏

قال ابن هشام ‏‏:‏‏ أسره خالد بن زيد ، أبو أيوب الأنصاري ، أخو بني النجار ‏‏.‏‏

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وصيفي بن أبي رفاعة بن عابد بن عبدالله بن عمر بن مخزوم ، تُرك في أيدي أصحابه ، فلما لم يأت أحد في فدائه أخذوا عليه ليبعثن إليهم بفدائه ، فخلوا سبيله ، فلم يف لهم بشئ ؛ فقال حسَّان بن ثابت في ذلك ‏‏:‏‏

وما كان صيفي لِيُوفي ذمة * قفا ثعلب أعيا ببعض الموارد

قال ابن هشام ‏‏:‏‏ وهذا البيت في أبيات له ‏‏.‏‏

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وأبو عزة ، عمرو بن عبدالله بن عثمان بن أهيب بن حذافة بن جمح ، كان محتاجا ذا بنات ، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال ‏‏:‏‏ يا رسول الله ، لقد عرفت ما لي من مال ، وإني لذو حاجة ، وذو عيال ، فامنن علي ؛ فمن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأخذ عليه ألا يظاهر أحدا ‏‏.‏‏ ‏‏.‏‏

 ما مدح به أبو عزة الرسول عندما أطلقه بغير فداء

فقال أبو عزة في ذلك ، يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويذكر فضله في قومه ‏‏:‏‏

من مبلغ عني الرسول محمدا * بأنك حق والمليك حميدُ

وأنت امرؤ تدعو إلى الحق والهدى * عليك من الله العظيم شهيد

وأنت امرؤ بُوِّئْتَ فينا مَباءة * له درجات سهلة وصعود

فإنك من حاربته لمحارب * شقي ومن سالمته لسعيد

ولكن إذا ذُكِّرتُ بدرا وأهله * تأوَّب ما بي ‏‏:‏‏ حسرة وقعود

 مقدار الفداء للأسير

قال ابن هشام ‏‏:‏‏ كان فداء المشركين يومئذ أربعة آلاف درهم للرجل ، إلى ألف ردهم ، إلا من لا شيء له ، فمنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه ‏‏.‏‏

 إسلام عمير بن وهب بعد تحريض صفوان له على قتل الرسول

 صفوان يحرضه على قتل الرسول

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير ، عن عروة بن الزبير ، قال ‏‏:‏‏ جلس عمير بن وهب الجمحي مع صفوان بن أمية بعد مصاب أهل بدر من قريش في الحجر بيسير ، وكان عمير بن وهب شيطانا من شياطين قريش ، وممن كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ويلقون منه عناء وهو بمكة ، وكان ابنه وهب بن عمير في أسارى بدر ‏‏.‏‏

قال ابن هشام ‏‏:‏‏ أسره رفاعة بن رافع أحد بني زريق ‏‏.‏‏

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ حدثني محمد بن جعفر بن الزبير ، عن عروة بن الزبير ، قال ‏‏:‏‏ فذكر أصحاب القليب ومصابهم ، فقال صفوان ‏‏:‏‏ والله إن في العيش بعدهم خير ؛ قال له عمير ‏‏:‏‏ صدقت والله ، أما والله لولا دين علي ليس له عندي قضاء وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي ، لركبت إلى محمد حتى أقتله ، فإن لي قبلهم علة ‏‏:‏‏ ابني أسير في أيديهم ؛ قال ‏‏:‏‏ فاغتنمها صفوان وقال ‏‏:‏‏ علي دينك ، أنا أقضيه عنك ، وعيالك مع عيالي أُواسيهم ما بقوا ، لا يسعني شيء ويعجز عنهم ؛ فقال له عمير ‏‏:‏‏ فاكتم شأني وشأنك ؛ قال ‏‏:‏‏ أفعل ‏‏.‏‏

 رؤية عمر له و إخباره الرسول بأمره

قال ‏‏:‏‏ ثم أمر عمير بسيفه ، فشُحذ له و سُمَّ ، ثم انطلق حتى قدم المدينة ؛ فبينا عمر بن الخطاب في نفر من المسلمين يتحدثون عن يوم بدر ، ويذكرون ما أكرمهم الله به ، وما أراهم من عدوهم ، إذ نظر عمر إلى عمير بن وهب حين أناخ على باب المسجد متوشحا السيف ، فقال ‏‏:‏‏ هذا الكلب عدو الله عمير بن وهب ، والله ما جاء إلا لشر ، وهو الذي حرش بيننا ، وحَزَرنا للقوم يوم بدر ‏‏.‏‏

ثم دخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ‏‏:‏‏ يا نبي الله ، هذا عدو الله عمير بن وهب قد جاء متوشحا سيفه ؛ قال ‏‏:‏‏ فأدخله علي ، قال ‏‏:‏‏ فأقبل عمر حتى أخذ بحمالة سيفه في عنقه فلبَّبه بها ، وقال لرجال ممن كانوا معه من الأنصار ‏‏:‏‏ ادخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجلسوا عنده ، واحذروا عليه من هذا الخبيث ، فإنه غير مأمون ؛ ثم دخل به على رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏.‏‏

 من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم

فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعمر آخذ بحمالة سيفه في عنقه ، قال ‏‏:‏‏ أرسله يا عمر ، ادن يا عمير ؛ فدنا ثم قال ‏‏:‏‏ إنعموا صباحا ، وكانت تحية أهل الجاهلية بينهم ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏:‏‏ قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير ، بالسلام ‏‏:‏‏ تحية أهل الجنة ، فقال ‏‏:‏‏ أما والله يا محمد ، إن كنت بها لحديث عهد ؛ قال ‏‏:‏‏ فما جاء بك يا عمير ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم فأحسنوا فيه ؛ قال ‏‏:‏‏ فما بال السيف في عنقك ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ قبحها الله من سيوف ، وهل أغنت عنا شيئا ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ اصدقني ، ما الذي جئت له ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ ما جئت إلا لذلك ‏‏.‏‏

قال ‏‏:‏‏ بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحجر ، فذكرتما أصحاب القليب من قريش ، ثم قلت ‏‏:‏‏ لولا دين علي وعيال عندي لخرجت حتى أقتل محمدا ، فتحمّل لك صفوان بدَيْنك وعيالك ، على أن تقتلني له ، والله حائل بينك وبين ذلك ؛ قال عمير ‏‏:‏‏ أشهد أنك رسول الله ، قد كنا يا رسول الله نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء ، وما ينزل عليك من الوحي ، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان ، فوالله إني لأعلم ما أتاك به إلا الله ، فالحمد لله الذي هداني للإسلام ، وساقني هذا المساق ، ثم شهد شهادة الحق ‏‏.‏‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏:‏‏ فقهوا أخاكم في دينه ، وأقرئوه القرآن ، وأطلقوا له أسيره ، ففعلوا ‏‏.‏‏

 عمير يدعو إلى الإسلام في مكة

ثم قال ‏‏:‏‏ يا رسول الله ، إني كنت جاهدا على إطفاء نور الله ، شديد الأذى لمن كان على دين الله عز وجل ، وأنا أحب أن تأذن لي ، فأقدم مكة ، فأدعوهم إلى الله تعالى ، وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم ، و إلى الإسلام ، لعل الله يهديهم ، وإلا آذيتهم في دينهم كما كنت أوذي أصحابك في دينهم ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلحق بمكة ‏‏.‏‏

وكان صفوان بن أمية حين خرج عمير بن وهب ، يقول ‏‏:‏‏ أبشروا بوقعة تأتيكم الآن في أيام ، تنسيكم وقعة بدر ، وكان صفوان‏ يسأل عنه الركبان ، حتى قدم راكب فأخبره عن إسلامه ، فحلف أن لا يكلمه أبدا ، ولا ينفعه بنفع أبدا ‏‏.‏‏

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ فلما قدم عمير مكة ، أقام بها يدعو إلى الإسلام ، ويؤذي من خالفه أذى شديدا ، فأسلم على يديه ناس كثير ‏‏.‏‏

 من رأى إبليس عندما نكص على عقبيه يوم بدر ، و ما نزل في ذلك

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وعمير بن وهب ، أو الحارث بن هشام ، قد ذُكر لي أحدهما ، الذي رأى إبليس حين نكص على عقبيه يوم بدر ، فقيل ‏‏:‏‏ أين ، أي سُراق ‏‏؟‏‏ ومثَلَ عدو الله فذهب ، فأنزل الله تعالى فيه ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس ، وإني جار لكم ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏ فذكر استدراج إبليس إياهم ، وتشبهه بسراقة بن مالك بن جعشم لهم ، حين ذكروا ما بينهم وبين بني بكر بن عبد مناة ابن كنانة في الحرب التي كانت بينهم ‏‏.‏‏

يقول الله تعالى ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ فلما تراءت الفئتان ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏ ونظر عدو الله إلى جنود الله من الملائكة ، قد أيد الله بهم رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على عدوهم ، ‏‏(‏‏ نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏

وصدق عدو الله ، رأى ما لم يروا ، وقال ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ إني أخاف الله ، والله شديد العقاب ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏ فذكر لي أنهم كانوا يرونه في كل منزل في صورة سراقة لا ينكرونه ، حتى إذا كان يوم بدر ، والتقى الجمعان نكص على عقبيه ، فأوردهم ثم أسلمهم ‏‏.‏‏

 تفسير ابن هشام لبعض الغريب

قال ابن هشام ‏‏:‏‏ نكص ‏‏:‏‏ رجع ‏‏.‏‏ قال أوس بن حجر ، أحد بني أسيد ابن عمرو بن تميم ‏‏:‏‏

نكصتم على أعقابكم يوم جئتم * تُزَجُّون أنفال الخميس العرمرم وهذا البيت في قصيدة له ‏‏.‏‏

شعر حسَّان بن ثابت يفخر بقومه ويذكر خداع إبليس قريشا

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وقال حسَّان بن ثابت ‏‏:‏‏

قومي الذين هم آووا نبيهم * وصدقوه وأهل الأرض كفارُ

إلا خصائص أقوام هم سلف * للصالحين مع الأنصار أنصار

مستبشرين بقَسْم الله قولهم * لما أتاهم كريم الأصل مختار

أهلا وسهلا ففي أمن وفي سعة * نعم النبي ونعم القسم والجار

فأنزلوه بدار لا يخاف بها * من كان جارهم دارا هي الدار

وقاسموه بها الأموال إذ قدموا * مهاجرين وقسم الجاحد النار

سرنا وساروا إلى بدر لحينهم* لو يعلمون يقين العلم ما ساروا

دلاَّهمُ بغرور ثم أسلمهم * إن الخبيث لمن والاه غرّار

وقال إني لكم جار فأوردهم * شر الموارد فيه الخزي والعار

ثم التقينا فولوا عن سَراتِهمُ * من منجدين ومنهم فرقة غاروا

قال ابن هشام ‏‏:‏‏ أنشدني قوله ‏‏(‏‏ لما أتاهم كريم الأصل مختار ‏‏)‏‏ أبو زيد الأنصاري ‏‏.‏‏